نبحث عن الحقيقة

علي صالح طبيعة التحالف ونهاية المؤامرة!

موقع طلائع المجد | مقالات |

أنس القاضي

مركز الدراسات الاستراتيجية والاستشارية اليمني

يمثل سقوط «صالح» علامة فارقة في التاريخ اليمني لا تختلف عن سقوط الملكية في 1962م، فالرئيس السادس للجمهورية العربية اليمنية، نصب نفسه حاكماً مطلقاً، وظل مسيطراً نافذاً في الواقع السياسي والاقتصادي والأمني اليمني طوال 38 سنة، حتى بعد خروجه الجزئي من السُلطة في المبادرة الخليجية 2012 التي أمنت له خروجاً مشرفاً محفوفاً بـ”الحصانة” لكنه ظل متمسكاً بها حتى أخر يوم في حياته! فهل السلطة أو السجن والموت سيكولوجية الحاكم العربي؟

لم يكن الوضع الذي انتهى بمقتل «صالح»، فشلاً في إدارة الشراكة بين صالح وأنصار الله بل كان انفجاراً لتناقض عميق في أهم أسس الشراكة بين الطرفين، وهي تقييم الخطر الخارجي، فالخطر الذي اعتبره أنصار الله رئيسياً وهو العدوان لم يكن بهذه الخطورة بالنسبة لـ«صالح». وفي غاية الكفاح، التي اعتبرها أنصار الله السيادة والتحرر الوطني، فيما مثلت لصالح، رفع العقوبات الأممية عنه وعن نجله واحتفاظه بقيادة حزب المؤتمر بما يتجاوز اتفاقية “المبادرة الخليجية” التي اشترطت خروجه من المسرح السياسي، كما كان يطمح صالح لقبول المملكة والولايات المتحدة أن يعود ممثلاً لمصالحهما في البلد كما كان قبل 2011 فبراير حاكما “لا شريك له”! والتناقض من حيث الأوليات الحكومية التي تصورها أنصارالله ضرورات اقتصادية اجتماعية ملحة داعمة لصمود الجبهات، كانت بالنسبة لـ«صالح» أولويات استقطابية انتخابية وعسكرية داخل المجتمع ومؤسسات الدولة ترسخ مواقع المؤتمر وتجعلها العليا، في مواجهة شريكهم أنصار الله.

لم يكن «صالح» راقصاً على رؤوس الثعابين كما كان يتفاخر بتصوير نفسه منهمكاً في خدمة الشعب العصي على الحكم والاستجابة للدولة الوطنية، فقد كان في حالة حرب على القوى الوطنية اليمنية القومية واليسارية، لترسيخ حكمه، منقلباً على كل التحالفات السياسية، منها التي عقدها مع الاشتراكي في عام 90 ومع الاخوان في عام 94م. وكذلك نقض اتفاقيات السلام مع أنصارالله طوال الحروب الست. ومعيقاً للتطور السياسي الديموقراطي، بإعاقته للإصلاح السياسي وهو المسار الذي وصل إلى نقطة الصفر في العام 2009 حين رفضت المعارضة الدخول في انتخابات جديدة دون إصلاح سياسي كان القيام بهِ يعني خسارة حزب «صالح» في لعبة الديمقراطية الشكلية، فلم يصل لأفق مسدود فقط مع أحزاب المعارضة حينها، بل ظهرت قوى اجتماعية جديدة رافضة لسياسته في الحكم، أنصارالله في أقصى الشمال والحراك في أقصى الجنوب.

صالح ومراوغة الالتحاق بجبهة مواجهة العدوان

لم يشعر «صالح» طوال فترة حكمة بتناقض المصالح الوطنية والمصالح الاستعمارية لقوى العولمة الامبريالية، كما لم تكن ممالك الخليج في تقييمه السياسي خطراً على الجمهورية والديمقراطية في اليمن وممالك ذات أطماع توسعية، فقد كان طوال فترة حكمة متوائماً مع السياسية الخليجية، فأنقذته المملكة العربية السعودية حين تعرض لعملية إرهابية في جامع دار الرئاسة في أحداث 2011م، وظل محتفظاً بعلاقات متميزة مع الإمارات العربية المتحدة -التي لم يكن يذكرها ضمن تحالف العدوان حتى أيامه الأخيرة-، واستمر ذلك حتى مجيء التدخل العسكري الخليجي المدعوم أمريكياً في عشية 26 مارس 2015م، حينها لم يخرج «صالح» بموقف مبدئي منه، والتزم الصمت باعتبارها حرباً بين أنصارالله والسعودية، ثم ظهر مُديناً للعدوان بعد أن تم فرض عقوبات عليه وعلى نجله أحمد علي، في القرار 2216م وشجعه على الظهور صمود الشعب وغضب الجماهير اليمنية ومن ضمنها قواعد حزبه المؤتمر الشعبي العام، فاعتبرها اللحظة الأنسب ليعيد الحياة لحزبه ويعيد شعبيته بعد أن عصفت به رياح “الربيع العربي”.

طوال فترة حكم اللجنة الثورية العليا كان يخرج صالح بالخطابات التي يؤكد فيها أن الواقع الوطني لمواجهة العدوان هو الذي جمعه بأنصار الله في “مترس واحد” ويرسل بذلك رسائل لدول التحالف بعدم رسوخ عدائه لهم، فيما كان يخاطب الداخل باعتباره المحرك الرئيسي للمواجهة، حتى تخلقت صورة أسطورية لقوات الحرس الجمهوري الموالية له نسبياً، والتي صورت في الوعي العام كقوات تابعة مطلقاً لصالح ونجله أحمد علي وهو التصور الذي ذهب «صالح» إلى تكريسه في الوعي العام، وكشفت جولة الصراع الأخيرة في صنعاء زيف هذه التصورات، التي أودت به حين صدقها! فلم تنحاز له قوات الحرس الجمهوري بل شاركت مع الأجهزة الأمنية في إسقاط المؤامرة الانقلابية المدعومة من العدوان على شركائه التي فجرها في 2 ديسمبر 2017م.

صالح للسعودية: أنا الجواد الرابح!

دخل «صالح» في مرحلة جديدة بعد أن عادت له كثير من القواعد التي تخلت عنه بعد 2011م، ورأت في معارضته للعدوان ختاماً وطنياً موفقاً لتاريخه السياسي الغير وطني! كان الحدث الأبرز هوَ الذكرى الأولى للعدوان 26 مارس 2016م، حينها حشد «صالح» أنصاره في السبعين، وأطلق خطاباً لدول التحالف، قائلاً بأنكم أخطأتم في الاعتماد على هادي فهو “جواد خاسر”، مما يعني ضمنياً بأنه الجواد الرابح الذي يُمكن الاعتماد عليه في إسقاط أنصار الله، حيث كان صالح يكرر في كل خطاباته بأن أنصارالله سُلطة “أمر واقع” أخذوا السلطة من هادي، ولم يكن معترفاً بالشرعية الثورية، وهوَ خطاب مقارب لخطاب دول التحالف التي تعتبر سلطة أنصار الله “انقلابية”.

من هذه المرحلة بدأ «صالح» في استراتيجية لصق نفسه والقوات التي هي في الوعي العام موالية له بكل ما له علاقة بالتصدي للعدوان، فطبعت الصور التي تجعله بجانب قائد الثورة السيد عبد الملك الحوثي، وانتشرت في أسواق صنعاء وسياراتها الصور التي يظهر بها صالح وخلفه الصواريخ الباليستية مرفقة بعبارات دوغمائية عديدة، يستشف منها الناس بأن «صالح» صاحب القرار العسكري ومن يقود المجابهة، وبأنه ليس فقط شريك لأنصار الله بل ومحركهم، كما يُشيع معسكر هادي.

وفي كل كلمة له، بات «صالح» يتوعد العدوان ويشيد بالانتصارات، ويطري على الصمود الشعبي بعبارات الانحياز للمعركة حتى نهايتها، ليصبح في الوعي الاجتماعي والسياسي الداخلي والخارجي الرقم الأبرز في مواجهة العدوان، وحين وصل إلى هذه النقطة انتقل إلى استراتيجية جديدة، صاعداً سلم المراوغات والخيانة!

الشراكة مع أنصار الله والمعارضة “للحوثيين”!

من بعد تشكيل المجلس السياسي الأعلى في اليمن مناصفة بين أنصار الله والمؤتمر في 28 يوليو 2016م دخل «صالح» مجيراً حزب المؤتمر معه في استراتيجية جديدة، تمثلت في استعادة نفوذه في مؤسسات الدولة، والعمل كمعارض لأنصار الله الذي كان يخاطبهم بنبرته المعارضة بـ”الحوثيين”! مستفيداً من تجربته في لعب دور المعارض إبان “حكومة الوفاق” التي تناصفها مع أحزاب “اللقاء المشرك” بعد تسوية المبادرة الخليجية في 3 أبريل 2012م، وتوعدهم حينها كيف ستكون المعرضة!

عاد «صالح» والموالون له لتقوية نفوذهم في مؤسسات الدولة، ومن حيث البنية التكوينية فحزب المؤتمر رغم حضوره الشعبي في وسط الفقراء والطبقة الوسطى ذوي المصلحة الوطنية إلا أنه سياسياً استمر ليعبر عن مصالح الفئات الطفيلية من البيروقراطية الإدارية المدنية والعسكرية بشكل أساسي، وهذه البيروقراطية همشت اللجان الثورية دورها وسلبتها سيطرتها الإدارية من بعد إسقاط أنصار الله لصنعاء ثورياً في 21سبتمبر 2014م. وتحت مسمى الشراكة السياسية وعودة البرلمان وتجاوز مرحلة اللجان الثورية، مارس «صالح» وأتباعه ضغوطات شديدة ضد الموظفين الذين شغلوا مواقع اللجان الثورية سابقاً، وهكذا استعاد صالح جزءاً كبيراً من قوته البيروقراطية المدنية، وعجز عن إعادة البيروقراطية العسكرية للحكم من القيادات العسكرية الموالية له التي فضلت البقاء في منازلها واتخاذ موقع الحياد في الحرب. وطالما كان «صالح» في خطاباته يدافع عن الطابع المؤسسي للدولة وعن الدستورية والقانونية التي تعني في نهاية التحليل الدفاع عن الطابع الطبقي البيروقراطي لمؤسسات الدولة التي تخدم بشكل أساسي طوال ثلاثة عقود شبكات مصالح نخبته التي تشاركه الحكم.

لم يكتفِ «صالح» بترسيخ نفوذه في المؤسسات المدنية للدولة مع احتفاظه بالسلطة المحلية والبرلمان، بل عمل على لعب دور المعارض، فبالرغم من أن الوزارات الإيرادية كالنفط والاتصالات كانت بحوزته -ولم يكن هناك مانع لدى أنصار الله من تسليمه هذه الوزارات كبادرة حسن نية في فتح علاقة جديدة معه عنوانها أولوية التصدي للعدوان- فقد ظل صالح طوال عمر الشراكة يطالب أنصار الله بدفع رواتب الموظفين التي انقطعت إثر الحرب الاقتصادية التي هي جزء من العدوان ويحملهم المسؤولية، لتعود من جديد إلى الجماهير جملة “سلام الله على عفاش” تترحم على فترة حكمة -التي لم تكن يوماً مزدهرة- وفق عمل أمني منظم في نشر الإشاعات الاقتصادية والحديث عن ” إهانة أنصار الله” لمؤسسات الدولة، وعن نهب “مشرفيهم” لأموال الدولة، بما يلامس الحاجات المباشرة الملموسة للجماهير اليمنية التي تشهد أوضاع إنسانية بالغة السوء منذ بداية الحرب وهو ما تكرره بيانات المنظمات الأممية.

مارس «صالح» والموالين له من حزب المؤتمر دوراً معطلاً لعملية الشراكة السياسية بالإضافة إلى لعب دور الشريك المعارض! ومانعوا القيام بأي عملية لمكافحة الفساد أو للإصلاح الإداري من قبيل تصحيح الأسماء الوهمية والازدواج الوظيفي، أو تفعيل الهيئات الرقابية والسلطات القضائية، وكان ملف الغاز والوقود هو أكثر الملفات الاقتصادية التي يستثمرها «صالح» في الإشاعات والضغط على أنصار الله وتبرز في وسائل إعلامه التي تتلبس صفة المعارضة. وكان عدم حضور ممثلي المؤتمر في المجلس السياسي يعطل دور رئيس المجلس السياسي فيعجز عن إصدار أي من هذه القرارات الهامة لإصلاح الأداء المؤسسي لما تبقى من مرافق الحكومة. كما أن استراتيجية صالح قضت برفض تسلُم حزبه رئاسة المجلس السياسي دورياً كما هو متفق، وذلك بعد انقضاء الفترة الأولى لرئاسة ممثل أنصار الله «صالح الصماد»، ليظل أنصار الله هم المسيطرين في الصورة أمام المجتمع وفي وجه الأزمات. وقد نجح «صالح» في تحميل أنصار الله تبعات الأزمة الاقتصادية والفشل الحكومي.

ومثل هذا السيناريو لم يكن مُستبعداً أن يقوم به صالح بالنسبة لمن يعرفون تاريخ التحالفات السياسية التي انقلب عليها «صالح» من سياسيين أو باحثين خاصة بعد ظهور مؤشرات قوية على توجهه الانقلابي الجديد، وجدير بالإشارة أن الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عاتق جار الله توصل إلى ذات النتيجة في أحد السيناريوهات المحتملة لمستقبل الاتفاق بين أنصار الله وحزب صالح، حيث كتب في ديسمبر من العام الماضي 2016م: “أو أن يدفع صالح باتجاه إفشال الجماعة اقتصادياً لإثارة الشارع عليها وإرهاقها في حرب استنزافية مع الشرعية، ومن ثم يتم الانقلاب عليها بدعم من بعض القوى الدولية”.([1])

وهو السيناريو الذي تحقق في نهاية المطاف، وفي غضون 24 ساعة تحول صالح في إعلام المعسكر الموالي للتحالف من رئيس مخلوع إلى رئيس سابق، وفي عشية مقتله قامت طائرات التحالف بتقديم المساندة الجوية للميليشيات الموالية لها في المعارك التي اندلعت في العاصمة، وقد نقلت هذا الخبر أبرز الوسائل الاعلامية الدولية، مثل رويترز([2]) والبي بي سي([3]).

وقد كان ينوي صالح تنفيذ هذا الانقلاب في احتفال 24 اغسطس في ميدان السبعين، لكن انصار الله تداركوا هذه المحاولة الانقلابية وطوقوا صنعاء بجماهير ثورة 21 سبتمبر، وجدير بالذكر ان صالح عشية احتفال السبعين كان قد رفع في ميدان السبعين صورة عملاقة له مع العميل هادي وهو يسلمه العلم الجمهوري في انتقال المبادرة الخليجية الشكلي 2012م في اشارة تقول له مازلت اعترف بشرعيتك! كما كان لبيان اللجان الشعبية ذي اللهجة الشديدة دوراً في كبح جماح صالح حينها، بعد أن وصف اللجان الشعبية بالميليشيا بما يتفق مع التوصيف السياسي لدول العدوان.

احتفال المؤتمر في السبعين وتفجر الأزمة السياسية

قبل احتفال المؤتمر الشعبي العام بعيد تأسيسه الخامس والثلاثين في السبعين (لأول مرة في تاريخه)، التقى «صالح» ووزير الخارجية من حزبه، وأمين عام حزبه «عارف الزوكا» التقوا كلاً على حدةٍ بمبعوثة الاتحاد الأوربي إلى اليمن، وحملوها رسائل الود إلى الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة وعولوا عليها أن تطالب بوقف العدوان، وقدموا لها المؤتمر (الحزب الذي يهيمن عليه الفرد) صالح كحزب وطني (أصيل) ليبرالي وغير أيديولوجي- في إتهام لأخذ أنصار الله أيديولوجيتهم من إيران- القادر على حكم البلاد وحماية المصالح الأوربية والغربية، وقبلها كان البرلمان برئيسه (المؤتمري) قد أطلق مبادرة استسلامية اقترح فيها تسليم ميناء الحديدة ومطار صنعاء لقوات دولية، للشروع بعملية السلام وهو ما رفضه أنصار الله في نهاية المطاف.

أخذ خطاب زعيم المؤتمر الشعبي العام، مساراً تصاعدياً، قبل أيام من احتفالية السبعين 24 أغسطس 2017م، ففي هذه الخطابات التي تكرت بشكل يوم في اجتماعاته إلى ما بعد مرور الفعالية، كان يدعو إلى “الابتعاد عن التوتر الذي يخدم دول العدوان ومن يقف في صف العدوان”، معتبراً التوتر، ليس ذا وجود موضوعي في الواقع الميداني السياسي لتناقض المواقف والتصورات والأولويات الحكومية والسياسية مع أنصار الله، بل نتاج وشايات “الطابور الخامس”، و أصر على تحميل الأنصار مسؤولية دفع المرتبات، معتبراً مشاركة المؤتمر في المجلس السياسي “مسؤولية، وليس لمصلحة”.

وفي الحديث عن العدوان فقد كان يذكره بصيغة “العدوان السعودي”، دون الأمريكي، وعن القوى التي تناهضه يقول “الجيش واللجان الشعبية والمتطوعين”، وقد كانت تبرز هذه المحددات في خطاب «صالح»، كمسائل جوهرية بالنسبة للمؤتمر في علاقاته الخارجية، وفي ضمان مستقبله السياسي في الوصول لتسوية مذلة فيكون هو المعني بالتخاطب مع التحالف، وبالشكل الذي يجعل أنصار الله كلجان شعبية مساهمين في النصر إلى جانب جيشه (العائلي) العتيد.

في خطاب 23 أغسطس قبل الاحتفال بيوم لمح إلى السعودية بقبول التسوية التي تقبلها الرياض “نحن على استعداد للحوار مع دول العدوان ممثلة بالمملكة العربية السعودية، هي التي تقود التحالف فنحن على استعداد للحوار الشجاع في إطار لا ضرر ولا ضِرار ونتفاهم مع الأشقاء في السعودية مثلما تفاهمنا معهم عام 70م بعد 8 سنوات من الحرب على الثورة اليمنية 26 سبتمبر من 62 حتى وضعنا حداً لتلك الحرب باتفاق عام 70”.

وكان في ذات الوقت إعلامه يدافع عن القيادات المؤتمرية التي أيدت العدوان صراحة، وذلك من أجل ضمان عودتهم، إذ كان يخدم هذا التوجه في الوصول إلى تسوية بين قوتين مواليتين للرياض كما حدث في العام 70، التسوية التي ذكرها والتي أبقت اليمن رهينة الهيمنة السعودية، ففي ذلك التاريخ تصالح الملكيون مع القوى (الرجعية) داخل صفوف الجمهورية من الموالين للسعودية، و«صالح» كان يريد الوصول لتسوية شبيهة يلتقي بها مع قيادات حزبه التي سبقته إلى الرياض والقاهرة ومع شريكه علي محسن الأحمر ونائبه التاريخي هادي. حيث كانت تطالعنا صحيفة اليمن اليوم التابعة له، وكذلك قناة اليمن اليوم، بالإشادة بالجنرال علي محسن الأحمر ومحافظ مأرب المعين من قبل هادي «العرادة» وهي تصف هاذين العميلين بأنها قيادات وطنية وحدوية! وهي صفقة تخرج منها القوى الوطنية اليمنية وهي أنصار الله من جهة والحراك الجنوبي وبعض القوى الوطنية التي تصطف بغباء مع هادي وتُستهدف في واقع الحال من قبل علي محسن الأحمر الذي يريد احتكار جبهة “الشرعية”، كما كان «صالح» يُريد أن يحتكر جبهة مواجهة العدوان.

وبشكل عام فلم تكن مسألة السيادة الوطنية هامة في صورة التسوية السياسية التي يريدها «صالح»، بعد أن استعاد نفوذه البيروقراطي وجمع مؤيديه وشوه أنصارالله، وغدا في وضع يؤهله أن يستمر كرقم صعب في الواقع اليمني.

فبعد زيارة سلمان لموسكو في أكتوبر الماضي، الذي دون شك تطرق للملف اليمني وحاولت الرياض الاستعانة بموسكو في التأثير السياسي والعسكري على مجريات الأوضاع في اليمن، سمح تحالف العدوان لوفد روسي بالمجيء جواً إلى مطار صنعاء (المغلق بإحكام)، بحجة قيام هذا الوفد بإجراء عملية لعين صالح، وكانت المفاجأة أن يقوم صالح في اليوم التالي بتكريم الوفد وكأنه لم يجرِ عملية يتطلب نجاحها منه الراحة لعدة أيام خاصة وأنه شيخ متقدم في السن، وسواء أجريت له عملية أم لا، فإن الأمر الجوهري هو البعد السياسي لهذا الوفد “الطبي” الذي أخذ يمارس دوراً ديبلوماسياً وسلم صالح دعوة لحضور ورشة عمل سياسية في معهد روسي ولقاء لطاولة المستديرة للحل السياسي، وقد أبدى صالح استجابته فيما هو محظور من السفر من قبل مجلس الأمن.

كيف غذّى تحالف العدوان الرغبات الذاتية لصالح في الانقلاب؟

رغم عدم جدية صالح في الشراكة مع أنصار الله على أساس مواجهة العدوان، إلا أن هذه الشراكة وخاصة على مستوى القاعدة بين جماهير أنصار الله وجماهير المؤتمر وبقية فئات الشعب كان لها دوراً هاماً في تدعيم الصمود في مواجهة العدوان، وهو الأمر الذي أزعج دول تحالف العدوان التي اتجهت لفض هذه الشراكة، ولا يخفى بأن هذه المسألة كانت أحد توصيات كبير الباحثين في معهد واشنطون ذي الاهتمام العميق بالشأن العسكري والسياسي والأمني في العراق وإيران ودول الخليج واليمن، فقد كانت أول بنود توصياته في مقاله المنشور بعنوان: “مكافحة انتشار الصواريخ الإيرانية في اليمن”([4]): ” بذل الجهود من أجل تسريع فسخ التحالف الحوثي مع صالح”.

هذه المساعي أكدها “بروس ريدل” (مستشار لأربعة رؤساء أمريكيين سابقين)، في مقاله المنشور بعنوان “هل ينهار “المتمرّدون” اليمنيون من الداخل؟)”[5]) فقد كان يعتقد “ريدل” أن الأمل الذي تعقده السعودية على الخروج من الساحة اليمنية قد يتوقّف إلى حد كبير على علي عبد الله صالح والانقسام في صفوف ما سماهم بـ “المتمرّدين اليمنيين”.

بينما يرى أن رهان السعودية على تصدع التحالف في صنعاء رهان ضعيف، ولا يشكّل استراتيجية قابلة للحياة بالنسبة إلى واشنطن.

وينقل عن بعض كبار المسؤولين السعوديين قولهم لنظرائهم الأميركيين إنهم قد يكونون أمام فرصتهم الفضلى لإنهاء الحرب بشروط مؤاتية إذا ما اندلع صراع داخل معسكر صنعاء؛ لكنه يستدرك أن النتيجة الأسوأ بالنسبة إلى السعوديين هي أن يتمكّن الحوثيون سريعاً من إلحاق الهزيمة بأنصار صالح وترسيخ سيطرتهم على “التمرّد”.

معسكر “الشهيد” لمساندة القتلة!

بعد نجاح «صالح» في إيهام الناس أنه محرك مواجهة العدوان وأنه المدافع عن (دستورية) الدولة وعن (لقمة) الشعب وتحميل أنصار الله المسؤولية عن المعيشة والانهيار الاقتصادي دخل المؤتمر في استراتيجيته الأخيرة وهي امتلاك القوة العسكرية للإطاحة بأنصار الله، وكما يبدو فإن دول العدوان التي طالما لمح لها بإمكان عودة التوائم معها طالبت منه القيام بفعل على الأرض يؤكد أقواله وليس فقط الاستعراض وتقديم التنازلات في الخطابات.

ولأن «صالح» لم يكن يملك فعلياً أي تأييد من القوات الشعبية والعسكرية التي تواجه العدوان في مختلف الجبهات الداخلية والحدودية للتأثير عليها، قام بتشكيل معسكر خارج إشراف وزارة الدفاع أسماه معسكر “الملصي” باسم أحد شهداء قوات مكافحة الإرهاب في جبهة نجران الذي انضم للقتال مع أنصار الله.

خّرَّج معسكر الملصي العديد من الدفعات العسكرية معظمها قناصة، ولم يكن يصل أحد منهم إلى الجبهات بل يتم توزيعهم على منازل العاصمة، وخاصة مناطق (حده) و(السبعين) حيث منازل أسرة «صالح» وقيادات المؤتمر الشعبي العام. عملت هذه القوات على الانتشار في العاصمة وقامت بعمليات رصد لأنصار الله ولمقراتهم، وكان مقاتلو هذه القوات التي استحدثها صالح معظمهم من قوات عسكرية موالية له اتخذت الحياد والقعود في البيوت عن مواجهة العدوان وبقيتهم شباب ريفيون، إلى جانب مقاتلين على ارتباط بالجماعات الإرهابية، وبعضهم مسلحون يتبعون مشايخ مؤتمريين، ممن جاءوا للاطمئنان على صحته بعد عملية العين الروسية المفترضة!

مؤامرة الانقلاب ومقتل زعيمها!

في آخر لقاء بين أنصار الله والمؤتمر، بعد الأزمة السياسية التي استمرت منذ احتفال المؤتمر في السبعين، لقاء المصارحة قدم رئيس الأركان اليمنية ونائب وزير الداخلية تقريرين عن الوضع العسكري والأمني الذي يحيكه «صالح»، كشفوا به مصير القوات التي يخرجها معسكر الملصي، وكيف أنها توزع في صنعاء ولا تصل إلى الجبهات، كان هذا آخر اللقاءات بين أعضاء المجلس السياسي من المؤتمر وأنصار الله، ورغم موضوعية التقارير التي كشفت لقيادات المؤتمر ما الذي ينوي «صالح» وابن أخيه قائد حراسته الخاصة العميد«طارق محمد عبد الله صالح» من أعمال تخريبية، إلا أن قيادات المؤتمر لم تحرك ساكناً، واستمر «صالح» في المغامرة العسكرية، التي أودت به في نهاية المطاف، حين صدق الاشاعات التي يبثها مخبروه، والانتصارات الاعلامية التي يختلقها إعلاميو حزبه إلى جانب الماكينة الإعلامية للعدوان، وتوهم أن هناك انتفاضة شعبية ضد أنصار الله وأن قواته سيطرت على كل شيء فخرج للدعوة إلى “الانتفاضة” والحرب الأهلية، محاولاً استنهاض القوات العسكرية والجماهير الشعبية وموظفي الدولة بكل القيم المقدسة (الوطن – الخبز – الوحدة – الجمهورية – الديمقراطية – والشرف العسكري)، مد لتحالف العدوان جناح الحمامة وطلب من الشعب أن يوجهوا البنادق إلى صدور من يواجهون العدوان! فخابت حساباته، كانت الأجهزة الأمنية التي يديرها أنصار الله أقوى، وكانت القبائل التي ضحت بأولادها وثمارها في مواجهة العدوان أكثر حكمة، وكانت قيادات المؤتمر الوسطى الوطنية وقواعده أشد حيرة وغير قادرة على تنفيذ طلب تفجير حرب أهلية، عوضاً عن كونها غير مؤهلة للحرب فلم تبنَ على أساس حزب كفاحي.

وربما كان أكثر ما شجع صالح على المخاطرة، هي الدعوة التي أطلقها قائد أنصار الله السيد عبد الملك الحوثي، والتي ظهر بها الحوثي ضعيفاً عسكرياً وفاقداً للسيطرة، فقد خاطب الحوثي صالح بـ “الزعيم” كما يُحب أن يخاطب، وبرئيس المؤتمر الشعبي العام، ورئيس الجمهورية السابق، وناشده لوقف الفتنة والجنوح إلى السلم وتسوية الخلافات بالحوار، وقد غرت صالح اللغة الودودة والمسؤولة في تلك المناشدة الأخيرة. وبعد 48 ساعة انتهت المعركة ببيان وزارة الداخلية التي أُعلن فيها إخماد المؤامرة ومقتل زعيمها من دون حتى ذكر اسمه ترفعاً عن التشفي، وهكذا فقد انتهت بثلاثة أيام كل الجبهات العسكرية التي فتحت داخل العاصمة صنعاء، ونسبياً خارجها.

وفيما توقع كثيرون حدوث عمليات انتقامية من أنصار الله ضد المؤتمر الشعبي العام، على غرار ما فعله صالح بالحزب الاشتراكي اليمني شريك الوحدة بعد حرب 94م، فقد عكست خطابات قيادات أنصار الله ورئيس المجلس السياسي، توجه أنصار الله للسلم والشراكة والأخوة، وعدم تحميل حزب المؤتمر الشعبي العام وقياداته وقواعده، ما فعله زعيم المؤتمر والمجموعة التي نفذت معه المؤامرة، بالتنسيق مع دول تحالف العدوان، وهي الحقائق التي أكدتها الوثائق التي نشرها أنصار الله عن مخطط صالح الانقلابي، بعد أن أكدت المؤامرة تغير اللغة السياسية والإعلامية لدول التحالف وقواها في التخاطب مع المؤتمر الشعبي العام، كما لا تزال الأوراق تتكشف تباعاً عن صلة تمرد صالح بدول العدوان من حيث تغير خارطة التحالفات وقيام السعودية بالتوسط للصلح بين التجمع اليمني للإصلاح والإمارات العربية المتحدة والقيادات المؤتمرية التي حددت موقفها المساند للعدوان في نهاية المطاف!

اترك رد